Wednesday 4 August 2021

منشور شديد الخصوصية


هي قصّة عائلة عاديّة كغيرها على امتداد هذا الوطن اليتيم.


هما ابتسام ومحمود... وهي سامية بكل ما يحمله هذا الاسم من إرادة وفعل…


هما مكافحان من اليوم الأول.


وهي التي تتحمل اليوم مفاعيل تفجير هزّ البلد.


هما...

مثل أيّ أستاذين في دولتنا الفاشلة، أدّيا قسطهما في زهرة عمرهما وصارا في سن التقاعد، سنّ الراحة وجني ثمار التعب... لم يكن لديهما الكثير من الخطط، ولا حتى أحلام كبيرة أو مستحيلة، جلسة شاي هانئة مع أحفادهما على شرفتهما الجميلة كانت لتكفيهما.


وهي، ابنتهما سامية، المتمرّدة التي لم يظلّلها يوماً جناح سياسيّ أو طائفيّ، أبيّة على المسمّيات الجاهزة والقوالب المفروضة. تسمّي الأشياء بأسمائها ضاربة بعرض الحائط أدبيّات الفتاة الخجولة ومواصفاتها البالية.


هي الثائرة قبل الثورة، والحرّة في بيئتها وخياراتها قبل شعارات الحرّية...

وهي التي وقعت عليها القرعة لتحمل على كتفيها النديين وزر مصيبة بحجم ٤ آب.


وهذه السامية وجدت نفسها فجأة مطالبة بالاختيار: إمّا التحوّل الى ضحيّة تخنع الى تصنيفات المجتمع وترضى بالنصيب، وإمّا الى مقاتلة في معركة فُرضت عليها صوناً لما تبقّى.


زوجها محمد، المهندس العصاميّ أصيب بكورونا في مغتربهم الأفريقي. أُحضر الى لبنان على وجه السرعة لإنقاذ حياته. فُصل بينه وبين عائلته. هو في مستشفى الروم القريبة من مرفأ بيروت وسامية وطفليها في الحجر... مؤشّراته الحيويّة بدأت بالتحسّن صبيحة اليوم المشؤوم، وأمل العائلة كان يرتفع مع كلّ شهيق إضافيّ يدخل رئتيه المتعبتين.


إنفجر المرفأ. طار نصف بيروت، طار محمد عن سريره مسلماً الروح، وكتمت سامية صرختها عندما علمت برحيله عبر نعي مستعجل على الفايس بوك.


كيف لها أن تصرخ وهي وحيدة مع يتيمين لم يعلما بوفاة السند والضحكة والوجه الذي لن يذكراه إلّا من الصور وأقاصيص العائلة. كتمت صرختها.


ففي تلك اللحظة، في عزّ لحظة ترمّلها، إختارت أن تكون المقاتلة، لا الضحية.


سامية تخوض اليوم معركةً برؤوس كثيرة: هي في مواجهة مفتوحة مع فخّ الدولة القاتلة الذي استدرجها من مغتربها ليقتل زوجها في مصير اعتقدا انّهما أفلتا منه بالهجرة. 

ومعركتها تضاعفت كونها امرأة فُرض عليها فجأة الدفاع عن حقّها في وصاية طفليها ورسم حياتهما ومستقبلهما. هي الحرّة الأبيّة التي لا يشبه كبرياءها شيءٌ من روايات النساء الخانعات المستكينات، بات عليها أن تثبت مع مطلع كلّ صباح انّها سيّدة "حسنة السيرة" وأنّها جديرة بتربية أطفالها وأنّها لا تفكّر بصباها الضائع فيما تربة زوجها لم تجفّ بعد! 


أيّ عقول مريضة قد تفرض علينا العيش في هذه الظروف السريالية؟ 

أبَعد القتل قتل؟ أبَعد السرقة سرقة؟ أبَعد الظلم ظلم؟ 


هما ابتسام ومحمود اللذان لم يؤذيا نملة، مشهود لهما من القاصي والداني... وأنا أدين لهما بتربيتي وتنشئتي وتعليمي ودعمي ومحبّتي، هما الرقيقان كفراشة يُراد لهما اليوم أن ينكسرا بتعبهما وبجنى العمر ويُستدرجان عنوةً إلى أروقة المحاكم للمساومة على مستقبل ابنتهما ومصير حفيديهما.


قصّتهما تحمل اسم ابتسام ومحمود، لكن معاناتهما تحمل أسماء كلّ مواطني هذا البلد المكلوم والمنهوب والمقتول.


ألا فهل من ناصرٍ ينصرهما؟