Tuesday 9 April 2013

يا للخيبة


العمر يمضي. بهفواته وبزلاته، بإنجازاته وبإحباطاته...أراه يمضي متناثرا من بين أصابعي، أحاول اقتناصه،أتمرد على قسوته، أداعبه ببعض المرح، ببعض الفرح... فيستكين لفترة.
لكنه سرعان ما يكبح. أراني معه، نواجه معاً مطباً هنا، عثرة ً هناك فينتفض قالبا عليّ كل ما شهده من مواجع.
ها هو يقرصني اليوم على أعتاب ميلادي الأربعيني. "أفيقي"...قال.
"أفيقي ولا تهدريني جزافاً بين المنحدرات".
"لنجري كشف حسابنا المؤجل"، اقترح عمري متحدياً، "ما الأقسى الذي واجهناه معاً؟ الحروب؟ إنها علقم الجغرافيا ولا حول لنا فيها. الموت؟ وهل تعلمين الى أين مضى الغائبون؟ لعلهم في مكان أفضل ينتظرون التحاقنا بهم بأناة وشوق.
المرض؟ إنه التجربة التي لا بد منها ليكتمل المشهد على طريق الغياب
ما الأقسى؟ الغربة؟ الترحال؟"
قاطعتُه: إنها الخيبة... فصَمَت.
إنها الخيبة...كانت الأصعب على مدى سنواتي الأربعين يا عمري. الموت والغياب عوضهما حنان لامتناهٍ وإيمان عميق بقدرة القدر.
المرض، الغربة، الحروب كبيرها وصغيرها؟ كلها حجارة على هذا الدرب...تماماً كما قلت يا عمري.
صدقاً، إنها الخيبة...لعلها أكثر ما حفر في سنواتي الأربعين...الخيبة من الأشخاص ومن الأشياء ومن الأمكنة.
الخيبة من بشر فرشتُ لهم قلباً مطواعاً في كل الظروف فإما استخفوا بمعدنه، وإما / وهذا الأقسى/ اعتبروه تحصيلاً حاصلاً وليس قرارا ًواعياً بمنحهم المودة الخالصة عن سابق إصرار وبلا طمع سوى بمعاملة بالمثل.
الأمكنة؟ تلك التي أعطيتها انتماءاً بلا حدود فرفستني مرة بعد أخرى ولم تزل.
الأشياء؟ إنها كل ما لا أجد له اسماً ولا تفسيراً، لعله طبق حلوى بدا متعة للعين لكن طعمه لم يرقَ لحلاوة منظره. لعله مشوار انتظرته أياماً فركنني على الرف في عطلة الأسبوع. لعله عنوان سعيت لاستكشافه بحماسة ففتح بابه مواربة وبلا أدنى ترحيب. لعله حلماً طاردته حتى تعبت من مجرد التفكير به وعجزت عن تحقيقه.
إنها الخيبة، تلجمني على أعتاب أربعيني من أن أحلم بغد فيه بشر وأمكنة وأشياء من طينة مختلفة فيتكرر المشهد، بل تتكرر الخيبة.

 

Monday 8 April 2013

جمهورية الحمرا المتحدة


قبل سنوات اقترح الحقوقي المخضرم، النائب والوزير، والمنضم حديثا الى نادي النخبة المستهدفة: بطرس حرب، اقترح منع بيع الأراضي والعقارات بين الطوائف المختلفة في لبنان. اقتراح جوبه بالرفض والاستهجان والاستنكار  من البعض (وأنا منهم) علما انه ورغما عن أنوفنا لم يكن إلا اقتراحا بقانون وضعي لحالة متجسدة فعلياً.

ما يعيدني اليوم الى ذاك الاقتراح المقيت هو صورة حزينة صادفتها قبل فترة على الفايس بوك ولفت نظري انها عابرة للطوائف.

الصورة كانت لرجل مسن حمل كل سنواته الطويلة، خيباته،جوعه ربما، فقره وعوزه واستلقى على قارعة الطريق في شارع الحمرا في عز برد الشتاء!

صورة المسن المتشرد تنقلت أمام ناظري من جدار الى جدار وعبرت بقدرة قادر من الثامن الى الرابع عشر وما بينهما ولم تثر لدى أحد من أصدقائي المتنوعين أي حساسية من أي مذهب أو دين!

 يطيب لي أن أعتقد أن السبب هو اندثار مفاجئ لمرض الطائفية المتغلغل في أواصرنا بوعي أحيانا ومن دون وعي في معظم الأحيان. لَكَم كان يحلو وسيطيب لي هذا الاعتقاد، لكن فكرة المكان بقيت تلح عليّ مهما حاولت استبعادها.

مثلاً لو كانت الصورة نفسها للرجل عاثر الحظ نفسه التقطت في طرابلس أو صيدا على سبيل المثال ألم يكن ليقيّمها البعض بنظرية : أين أغنياء الطائفة السنية من هذه الصورة؟ ها هو سعد الحريري يتنعم بأمواله على منحدرات التزلج في جبال الألب فيما هذا الرجل المسكين يئن جوعا ً وبرداً؟

لو كانت الصورة نفسها، للرجل المسكين نفسه، التقطت في الضاحية الجنوبية لبيروت ألم يكن البعض ليتساءل: أين حزب الله من فقراء الطائفة الشيعية؟ كيف له أن يصرف الأموال الطائلة على سلاحه ولا يلتفت الى أوجاع وحاجة الفقراء من طائفته ومنطقته.

المنطق نفسه سيكون هنا أو هناك. وأعلم علم اليقين انني كنت لأواجه بعضه فيما لو التُقطت الصورة نفسها في انطلياس أو الأشرفية أو بنت جبيل أو عكار أو بعقلين أو أي بقعة لبنانية أخرى.

الفرز الطائفي وصل الى عقولنا وإلى قلوبنا قبل أن يصل الى مناطقنا وقبل ان يصل الى بطرس حرب واقتراحه المقيت وقبل وبعد أن يُقر القانون الأرثوّذوكسي. هذه القوانين ليست إلا مرآة لنا ولتفكيرنا وللبناننا المريض الذي نتغنى بجماله مع كل طلعة صباح متجاهلين حقيقة ساطعة بأن آلاف القتلى والمخطوفين ُفقدوا في حرب أهلية وليس مع أي عدو خارجي جنوبا كان أو شمالا.

صورة الرجل المسن، الفقير، المستلقي في عز برد شباط التقطت على رصيف شارع الحمرا وجعلتنا نعيش للحظات نادرة شعور الإنسان والمواطن الحقيقي.

 تعاطف أصدقائي من ألوان وشهور مختلفة مع حاجة هذا المسن وعوزه، شاركوه الخيبة واليأس من هذا الوطن المريض ولم يسعوا لإلصاقه وإلحاقه كما جرت العادة بطائفة أو بزعيم.

 شارع الحمرا الذي يضم (أو كان يضم) مقاه ودور نشر ومؤسسات متنوعة يضم ذكرياتي الأجمل، ومهما نبتت أماكن جديدة واختراعات حضارية على جوانب المدينة ما زال يختصر بيروت التي أحب وأراه اليوم يختصر لبنان الذي أحب. يكفي شارع الحمرا فخراً أنه من المناطق القليلة المتبقية في لبنان الذي لم يخضع (بعد) للفرز الطائفي...