Wednesday 22 October 2014

قضاء، قدر ولعنة



في شهر أكتوبر من كل عام تتحول كندا إلى ما يشبه اليقطينة الضخمة.
 
اللون البرتقالي يطغى على كل ما عداه. وأنا وإن كنت أشارك بعض عادات الهاللوين من زينة وأزياء ببهجة طفولية إلا أن واحدة من الطقوس بدت لي غريبةً حد الجنون.
في الهاللوين، يزور بعض الكنديين والكنديات منازل مجهزة لتشعرهم بحالة رعب مهولة. أموات يلحقون بهم، مصاصي دماء، هياكل عظمية. كل ما تتحفهم به مخيلتهم لإثارة رعب المشاركين.
ما يثير حيرتي إزاء هذا التقليد هو أنني/ أننا نخاف مجاناً! نحن في بلادنا نعيش الخوف بالبلاش بلا تخطيط ولا رغبة. الأموات يحيطون بنا وألم فقدهم يعشش في خلايانا، وأي نشاط ٍ كبُر أو صغُر هو مشروع موت "حقيقي" محتمل.
كنت أقمع ابتسامةً مستهزئة مستعينة على صمتي بالقول: ليهنأوا بألعابهم فهم لم يجربوا يومياتنا، لم يتذوقوا نكهة موتنا ولم يألفوا العيش مع احتمال الرحيل أو الوداع في أي لحظة.
 
كل ما سبق تبدل فجأة.
 
الموت أو احتماله زارا الكنديين في عقر دارهم وخوفي عليهم يكاد يفوق خوفهم على أنفسهم.
أراهم يتخبطون بفوضى من لم يجرب هذه اللعنة يوماً وأشعر بحزن مرير. أستمع إلى الأخبار بحِرفة من خَبِر الأمر مرة ومرات فأستطيع التقاط براءة الجهل بأدبيات الإرهاب وأساليبه.
هم عرفوا الإرهاب عن بعد، بالواسطة وبالسماع. ونحن عشنا في مختبر تجاربه وشهدنا ولادته وكل مراحل نشأته وفتوته. ولهذا السبب بالذات نحن في كندا. ليس بسبب التقديمات الحكومية ولا لأي سبب مشابه، بل فقط للهرب من بطش أولئك الوحوش الذين تبدلت أسماءهم وأساليبهم، بالعسكرة والسكين تارة وبالسياسة طوراً، لكن لم تتبدل نتائج أفعالهم يوماً.
خوفي من إرهاب بدأ يضرب كندا يفوق خوف الكنديين "الأصليين" أنفسهم. أنا خسرت وطناً ولا أحتمل رفاهية خسارة الوطن البديل. كندا هي الواحة  "الآمنة" التي هربت بأولادي إليها. قد ينظرون إليّ اليوم أو غداً  بعين الكره على اعتباري المهاجرة المسلمة التي تحمل الجينات نفسها لأصحاب فكر "الجهاد"،  وقد يَصمونني بالإرهاب على غرار ما حصل مع الجاليات المسلمة في الولايات المتحدة إثر "غزوة" الحادي عشر من أيلول، لكن ما لن يعرفوه هو أن خسارتي أكبر، حزني أكبر... وعجزي أكبر.
 
 

Saturday 11 October 2014

لا تسرق الجياع


كيف لنا أن نرى أطفالاً جوعى يلتقطون قوتَهم معفراً بالتراب ومن ثمّ نمضي كأن لا عيناً رأت ولا أذناً سمعَت؟
كيف لأحاسيسنا أن تتبلّد على هذا النحو؟
كيف لنا أن نرمي أطناناً من فضلات طعامنا فيما يقتات بشر مثلنا على حصىً وطين؟
لا أدّعي أنّني أنبل وأكرم من كثيرين، لكنّ عادة هدر الطعام تحديداً مسألة تثير الحساسيّة بيني وبين كثر من محيطي.
قسماً أنّه في كلّ مرّة تمتدّ فيها يدي لرمي قطعة طعام أشعر بها تُنتزع من قلبي وتحفر عميقاً في ضميري.
"إن إلقاء بقايا الطعام في القمامة مثل السرقة من الفقراء والجياع". عبارة شديدة القسوة استخدمها قداسة البابا فرنسيس الأول لحضّ رعيّته على الحدّ ممّا أسماها "ثقافة الهدر."
رجل دين يؤدي واجبه الرعوي في زمن السياسة والفتن! لكن رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم ما فتئ يفاجئني بوصايا تذكّرني بجوهر الأديان لا بشعائرها وطقوسها.
"النزعة الاستهلاكيّة جعلتنا نعتاد على هدر الطعام يوميّاً ولم يعد بمقدرونا رؤية قيمته الحقيقيّة."
 القيمة الحقيقية لما نرميه في القمامة تصل الى أكثر من مليار طن من المواد الغذائيّة بحسب منظّمة الأمم المتّحدة للأغذية والزراعة "فاو". مليار طن كفيلة بسدّ جوع 870 مليوناً من البشر!
لكلّ واحدٍ من هؤلاء الجوعى إسم وقصّة وحياة ... وحتماً لهم أحلام وطموحات تتعدّى الحصول على رغيف خبز يشبعون فيه قرصة جوعهم.
مليار طن! منها ما أرميه في سلّة القمامة. هذا الهدر يكلّف كلّ عام نحو 750 مليار دولار.
في المرّة المقبلة التي سأواجه فيها نظرة مستنكرة ً لوضعي فضلات الطعام في الثلاجة، وفي المرّة المقبلة التي سترمي فيها فضلات طعامك ... لنتذكّر هؤلاء الملايين. جوعهم  دَينٌ في رقابنا.
أطفال جوعى! لو كنا حجراً لنطقنا... لكننا بشر: نرى، نسمع، نرمي ما تبقّى من طعامنا، ثم نشيح النظر باتجاه آخر.