*
لم يفاجئني ولو لوهلة
ما تداولته وسائل الإعلام العالمية عن برنامج ألعاب تلفزيوني نُفّذ وعُرض
في فرنسا بتوقيع المخرج "كريستوف نيك".
Zone extreme، وهو اسم الحلقة
التلفزيونية المزيفة، إختبر قدرة ثمانين مشتركاً على معاقبة شريكهم عندما يخطئ في
الإجابة على أحد أسئلة "اللعبة التلفزيونية".
كان المطلوب من هؤلاء
المشتركين صعق شريكهم في اللعبة بشحنة كهربائية، تبدأ بثمانين فولتاً وتصل الى 460
فولتاً قاتلة في كل مرة يخطئ فيها الشريك المسكين الذي لا يعرفونه، وهو أمر لم يجد فيه ثمانية مشتركين من أصل عشرة أيّ غضاضة طالما
أن قواعد اللعبة التلفزيونية تطلب ذلك، تسمح بذلك، تشرّع ذلك!
إدارة البرنامج اختارت
المشتركين الضحايا من الممثلين الذين أجادوا تمثيل الألم علّ صراخهم يُثني شريكهم
عن تنفيذ "عقوبة الموت" بحقهم وهو أمر لم يحصل مع أولئك المشتركين الذين
ارتأوا أنّ صعق الآخر وصولاً إلى قتله مقبول طالما أنه يتم تحت شعار العمل التلفزيوني!
لا يجدر بنتيجة التجربة
الفرنسية هذه أن تصدمنا، فالواقع فرنسياً كان أو عربياً أو عالميا ً يؤشر الى
ازدياد الحضور الطاغي لوسائل الإعلام عامةً والتلفزيون خاصةً في حياتنا ويدلّل
تجربة بعد أخرى على قدرة تلك الوسائل على رسم ذائقتنا، وعلى هندسة تفكيرنا وتشكيل
ذواتنا.
التلفزيون لم يعد آلة
جامدة ناطقة صماء مفصولة عن حياتنا!
تابعت قبل فترة حلقة
تلفزيونية عن سيدة تعود لتلتقي زوجها وطفلها بعد طول غياب.
منطقي الخاص كان يَفترض
أن تسارع المرأة لاحتضان العزيزين، أن تنهمر دموعها، أن تكشف عن الوجه الإنساني
الحنون والحقيقي.
حسابات السيدة كانت
مختلفة!
شاهدتُها تتابع زوجها
وابنها بعينيها في حين يركّز دماغها بوضوحٍ مفضوح على ما ستلتقطه الكاميرا.
كانت تشاهد نفسها معنا.
كانت "الممثلة" موضوع الحلقة ومشاهِدتُها في الوقت ذاته ولم تترك لنفسها
أن تغرق في وهج اللقاء، فوهج الشاشة الصغيرة كان أكبر.
أذكر أيضا أنني التقيت
مرّة مغنية عربية معروفة، أذهلني اختلاف شكلها شخصياً عنه على الشاشة، لأستنتج
لاحقاً أنها نفّذت من العمليات الجراحية ما يُرضي مقاييس الكاميرا التلفزيونية ولا
هَمّ ما يراه الناظر إليها طبيعياً.
سبقتنا الدول الغربية
الى تشريح هذه العلاقة الملتبسة بين الشاشة ومتابعيها، رصدت الحالة وسخرت منها
أحياناً. لنأخذ مثلاً برامج المقالب التلفزيونية (خاصة المنتجة في
كندا). فتلك البرامج تخلّت عن فكرة الكاميرا الخفية التي أخذناها نحن لاحقاً
لنسطّحها ونستهلكها بسذاجة ونصبت الكاميرا في الساحات العامة بشكلً معلن وعندما
يمارس الممثل مقلبه على مَن اختاره صدفة من المارين في الساحة نرصد مباشرةً
ردّ فعل ذلك الشخص المسكين الذي ضبطته الكاميرا متلبساً المقلب!
بعضهم يمضي وكأن شيئاً
لم يكن كي لا ترصده الكاميرا في وضعٍ محرج.
معظمهم يضحكون.. ضحكةً
صفراء مفتعلة تليق بالتلفزيون لأنها من شروطه.
هوليوود رسمت لنا
الحالة بقدرتها الاستباقية المعهودة من خلال فيلم "ترومان شو" الذي أنتج
عام 1998. قرية ترومان شو كلّها كانت تشاهد بطل الفيلم "جيم كاري" وتتابعه بدقائق
حياته اليومية بل وتشارك في تمثيل حياته!
القرية كانت عبارة عن
ممثلين يشاهدون أنفسهم.
بعد "الفيلم المصوّر
" لعملية اغتيال الناشط الفلسطيني محمود المبحوح في إمارة دبي بتّ أبادر فور دخولي
أي مصعدٍ عام لاستكشاف موضع الكاميرا، فقط ليطمئن قلبي. ولا أخفيكم بأنني أحياناً
أبتسم لذاك "الأخ الأكبر" القابع خلف عدسة الكاميرا الصغيرة!
ربما هذا ما نحن عليه
اليوم، كائناتٌ تلفزيونية تعيش حياتها بشروط الكاميرا ومقاييسها. كائناتٌ تنفّذ
يومياتها بما يليق ببرامج الواقع التلفزيونية.
*نشر سابقاً في موقع
CNBC عربية
No comments:
Post a Comment