عندما كنت صغيرة كانت سيّدات الحي يلتففن بمناديلهنّ البيضاء
الرقيقة.
كنّ يضحكن عالياً برغم القهر والفقر والظلم في أحيان
كثيرة.
كنّ يسرعن لملاقاة الضيف والترحيب به. وإذا ما أخطأ ذلك الضيف ثقافة أهل المنطقة ومدّ
يده مصافحاً، كنّ يمددن أياديهن المجعّدة بفعل الحقول والزمن ويُقدِمن على تلك
المصافحة الصعبة لكن فقط... بعد أن يغلّفنها بمنديلهنّ الرقيق.
كان ليعزّ عليهنّ أن يسيء الضيف الظنّ بهنّ وبثقافتهنّ.
كنّ يصافحنه عبر غلافٍ رقيقٍ من القماش ويغضضن البصر.
لذاك المنديل رائحة لا تغيب. مزيجٌ من عبق الصابون البلديّ
ونبتة العطراية التي تُفرك باليد لإطلاق رائحتها النفّاذة.
ومن ثمّ كبرتُ، وكبرَت المناديل معي، صارت أطول وأعرض. إختفى
اللون الأبيض تدريجياً منها وغابت معه رائحة الأرض الطيّبة.
إختفاء المنديل الأبيض تزامن مع خفوت ضحكات سيّدات الحيّ... صرن
أكثر تجهّماً وصرن أكثر حرصاً على الجنّة من رأي ضيف عابر. قيل لهنّ أنّهنّ لا يوفين
دينهنّ حقّه... فليلتحفن القماش أطوله وأثقله وليتحلّين بالسترة نصرةً لإيمانهنّ...
وإلّا فإنّ النار لهنّ وبئس المصير.
إحدى تلك السيدات كانت "الحجّة ناهيل". سيّدة
كنّا نزورها لتنفض عنّا لعنة العين الشرّيرة وسوءها. كان يكفي أن تضع يدها الدافئة
على جبهتنا وتتلو بصوتها الخافت بضع آيات من الذكر الحكيم لنشعر بالعافية ولنتأكّد
مرّة بعد مرّة أن :نعم... لها "لمسة رسول".
كانت يدها التي برزت عروقها الزرقاء لنحافتها ورقّتها
تلتصق بجباهنا وكنّا نحبس أنفاسنا بانتظار تثاؤبها البطيء.
لا تبخسوا تثاؤبها حقّه... كان له الدور الفصل في العمليّة.
يخيّل إليّ أنّ هذا النفس العميق كان المؤشّر إلى أن رُقيتها قد نجحت في إخراج
السقم الشرّير من أجسادنا الصغيرة.
كان لتلك السيدة الطاهرة ذات لمسة الرسول منديلٌ أبيض رقيق
وكانت تمثّل لي رمز الإيمان والتقى والورع.
كبرتُ... ولا أعلم لِمَ أنتفضُ تحسّباً كلّما رأيت ورع
وتقى وإيمان بعض بشر هذه الأيّام ... وأراني أتوق أكثر فأكثر لسيّدات الحيّ ومناديلهن
البيضاء الرقيقة.
اعدتينا للزمن المتسامح الجميل
ReplyDeleteكرمالك رح لبس امي شال بيض
شكراً يونس، الله يخليلك الوالدة ويطوِل بعمرها لتبقى رمزاً لذاك الزمن
Delete