غالباً ما نتعامل مع أطفالنا
بفوقيّة العارف، بعقليّة المربّي، ونتوقّع منهم التّلقّي بحدٍّ أدنى من النّقاش.
ولكن يحصل أن نفاجأ نحن الأهل بخصائص
متفرّدة في بعض أطفالنا. بخصالٍ لا فضل لنا فيها ولا دور. لربّما نتنبّه ونعمل على
تعزيز هذه الخصال، لكن لا فضل لنا فيها.
في عمر السّنتين لاحظت أن ابني
جود يُكثر من شرب الماء. على خلاف الأطفال بعمره، كان يرفض شرب العصائر وتناول
الحلويات وكان ولا يزال الماء مطلبه الأوّل والأكثر إلحاحاً على المائدة.
خفت على الصّبيّ من عوارض مَرضيّة
ممكنة فعرضتُه على الطّبيب الذي أكّد ولله الحمد اكتمال العافية.
لكنّ جود استمرّ في حرصه على
مطلبه الأوّل والأساسيّ كيفما تحرّك: عبوة الماء.
لذلك لم نستغرب كثيراً ردّ فعله يوم
كان يطالع صور بعض رحلات والده وبينها صور في دولة النّيجر الإفريقية. قال له أبوه:
"أهل النّيجر فقراء لدرجة أنّهم لا يحصلون على مياه شربٍ نظيفة."
كان عمر جود خمس سنواتٍ حينها لكنّ
هذه الجملة البسيطة سكنته على مدى العامين اللاحقين. إعتقدنا أنّه هوسٌ طفوليّ وراهنّا
على زواله مع الأيّام. لكنّ جود كان قد عزم وبدأ بالفعل ما أسماه "مشروع النّيجر"
“My Niger project”
على مدى سنتين كان جود يحتفظ بكلّ
قرشٍ يحصل عليه أو يقنع أحد الأصدقاء بالتبرّع له، وكان يرسم على أوراق كبيرة
خرائط تصف كيف سيوصل غالونات من الماء إلى النّيجر. كانت تؤرقه كلفة تذكرة الطائرة
وكنّا نضحك من مخطّطاته الطّفوليّة بالقول إنّنا سنتكفّل بدفع ثمن الرّحلة. كان
"مشروعه" نكتة العائلة لكنّه كان مشروعه الجادّ الذي لم ينفكّ يفكّر به
ويخطّط له.
في عيد ميلاد السيّد جود السّابع
أردنا منحه الهديّة التي تعني له الكثير. كان صار في حوزته أربعمئة وستّة وسبعون
دولاراً أميركيّاً، أخذناها وأضفنا إليها.
اليوم يُبصر "مشروع النّيجر"
النّور! بئر مياهٍ عذبةٍ بمضخّةٍ يدويّة في إحدى قرى النّيجر الفقيرة، بمال جود، بمساهمة
منّا وبإشراف جمعيّة دبي الخيريّة.
لا فضل لنا في هذه البسمة على
وجوه بعض فقراء النّيجر.
لا فضل لنا في قطرة الماء هذه
التي أمضى جود سنتين من عمره الصغير يخطّط لإيصالها لمستحقّيها.
الفضل لجود. الإسم على المُسَمّى.